المجلس هو المشكله مش هو الحل
يبدو واضحا الآن، وبما لا يدع مجالا لأى شك، أن الشعب صبر صبراً طويلا على المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومنحه كل ما يحتاج من وقت كى يثبت أنه الوكيل المؤتمن على ثورته وليس الوريث الطبيعى لنظام شاخ وفسد وثار ضده وأسقطه. ولأن الكل كان مبهورا بموقف الجيش الداعم للثورة ويشعر فى أعماقه بالامتنان له، فلم يشعر بحاجة ماسة تدفعه للتوقف طويلا عند حقيقة الأسباب الكامنة وراء هذا الموقف، أو للتحسب والتحوط والاحتراز ضد أسوأ الاحتمالات، وبدا على استعداد للاكتفاء بالمراقبة من بعيد، مع التحلى فى الوقت نفسه بأقصى درجات حسن النية.
ورغم شكوك بدأت تساور الشعب إزاء تصرفات لم يدرك مدلولها الحقيقى فى حينه، تدور فى معظمها حول موقف القيادة الجديدة من حسنى مبارك وعائلته ومن بقايا النظام القديم، إلا أن الشعب بدا على استعداد لمد حبال الصبر حتى النهاية، لذا راح يراقب بصبر أيوب أمورا لا تثير الدهشة فقط وإنما تثير الريبة أيضا، فقد سمح لمبارك بالإقامة فى شرم الشيخ وترك حرا طليقا يتصرف كما يشاء ويتصل بمن يشاء، بما فى ذلك إجراء حوارات بثتها الفضائيات بهدف التأثير على الرأى العام وقيادة الثورة المضادة، وترك زكريا عزمى يمارس مهامه فى القصر الرئاسى لمدة شهرين كاملين...إلخ،
ولم يتم حبس «مبارك» على ذمة التحقيق وإحالته إلى المحاكمة إلا تحت ضغط شعبى كبير، ومع ذلك لم يذق طعم السجن مطلقا. فقد خُصص له جناح رئاسى فى أكبر المستشفيات المصرية، وسُمح له بالمثول أمام المحاكمة مستلقيا على سرير طبى، وجىء به إلى هناك منقولا على طائرة خاصة، ثم بدأ العبث بالمحاكمة نفسها من خلال لعبة التأجيل.
فى مقابل هذا التدليل غير المبرر للمتجبرين وناهبى أموال الشعب استخدمت القسوة المفرطة فى مواجهة مواطنين مدنيين، وتم تقديم أكثر من عشرة آلاف منهم إلى محاكمات عسكرية!. الأدهى والأمر والأكثر مدعاة للتساؤلات أنه بعد تسعة أشهر من الثورة كان فلول الحزب الوطنى قد وزعوا أنفسهم على حوالى عشرة أحزاب، تم الترخيص لها وبدأت تمارس نشاطها رسميا، وسُمح لهم بالترشح فى الدوائر الفردية وأصبحوا فجأة قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى «برلمان الثورة»، هنا كان لابد للكيل أن يطفح.
على صعيد آخر، بدا عجز المجلس عن القيام بواجباته كمسؤول عن إدارة الدولة واضحا وفاضحا. فبعد تسعة أشهر من الثورة ظل الأمن غائبا عن الشارع، واشتعلت فتن طائفية بطول البلاد وعرضها، وارتفعت الأسعار بشكل جنونى، ولم يتم تحديد حد أدنى أو أعلى للأجور، وظلت كل مظاهر الفساد والظلم الاجتماعى كما هى. الأدهى والأمر أنه فى كل مرة تعين فيها على المجلس أن يختار شخصيات لشغل وظائف عليا فى الإدارة أو فى السلطة التنفيذية، كالمحافظين والوزراء وغيرهم، كانت خياراته تأتى فى معظمها سيئة، وبدا وكأنه ينهل من نفس الوعاء العفن القديم، ويعتمد نفس معايير الاختيار، وهنا كان لابد للكيل أيضا أن يطفح.
هل معنى ذلك أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو المسؤول الوحيد عن الأزمة التى تواجهها مصر حاليا، والتى تهدد بضياع ثورتها؟ بالطبع لا، فكل الأطراف المشاركة فى الحياة السياسية، بما فى ذلك الحكومة والنخب السياسية والفكرية، مسؤولة عن الحالة التى وصلنا إليها، ومن ثم يتعين على كل طرف أن يتحمل نصيبه من المسؤولية.
ولو كانت القوى السياسية قد استطاعت أن تحافظ على تماسكها وتقدم مصلحة الوطن على مصالحها الخاصة لما كنا قد وصلنا إلى ما نحن فيه الآن، غير أن المسؤولية الرئيسية تقع، رغم ذلك كله، على المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحكم هيمنته الكاملة على كل السلطات وإمساكه بكل المفاتيح. ولو كان المجلس قد وافق على فكرة إشراك عناصر مدنية معه فى تحمل المسؤولية، أو وسع من نطاق الصلاحيات الممنوحة للحكومة، أو تحاور مع القوى السياسية بمنهج علمى وبرؤية واضحة لجنب مصر مشكلات كثيرة، بما فى ذلك المشكلات التى نجمت عن أخطاء مباشرة وقعت فيها الحكومة أو القوى السياسية المختلفة.
وهل معنى ذلك أن الصدام بين الشعب والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى بدأت بوادره تلوح فى الأفق منذ يوم الجمعة الماضى، أصبح حتميا؟ بالطبع لا، فالصدام سيكون وبالاً على الجميع وستكون مصر كلها هى الخاسر الأكبر، ومن ثم يتعين على كل القوى الوطنية أن تتكاتف للبحث عن مخرج، وهو ممكن بشرط أن تخلص النوايا لوجه الله والوطن.